شهادة شخصية وذكريات عن الحياة الثقافية في الرقة

0

حمزة رستناوي، شاعر وباحث وطبيب سوري مقيم في كندا

أوراق 19- 20

الملف

عندما كنتُ في السنة الخامسة في كلية الطب – جامعة حلب، وفي صيف 1995 ركبنا القطار نحو الرقة لغرض قضاء المُعسكر الانتاجي، كان طريقا صحراويا طويلا مُملا ينتهي إلى خط أزرق مخضر طويل يُسمّى الفرات ونقاط متراكمة من أشجار تُشبه الواحة، إنها حرس حدود النهر! كان مُعسكرا لطيفا يجمع ما بين العمل والترفيه ومتعة اكتشاف المكان والمُجتمعات. كانت المّرة الأولى التي أتعرف فيها على جغرافيا ومُجتمعات الجزيرة السورية. لفت انتباهي جماليات الليل في الرقة، حيث كان من عادتنا السهر على ضفاف الفرات تحت الجسر القديم والاستماع إلى الغناء العراقي / الفراتي غير المألوف بالنسبة لي! استمعنا إلى شباب في جوارنا يعزفون على الدف وأحدهم يغنّي الموليا:

جرحي يلچمو النفس ما من رجا بشفايْ    

   روحي صعدت بالسما واسمك بقى بشفايْ    

  بس قول يابو زلف وش ورطك بجفايْ                                                          

يمتى ترد لي ارتوي …. وردي بلا ميّه

فجأة ينتابك إحساس داهم بالانتماء للمكان والناس، وفجأة ينفتح المشهد على طوفان وشيك يحتمل الحب والأسى. استعنت بأحد الأصدقاء لترجمة معاني الكلمات والدخول في عمق ثقافة وشيكة الغياب. من بعدها نما إحساس من الألفة حيث كان الليل والنهر مُتنفسنا اليومي آنذاك. هذا الليل الرقّاوي الذي قال فيه الشاعر نزار قباني مُخاطبا مُضيفه القاص عبد السلام العجيلي في زيارته اليتيمة إلى الرقة 1979 (أعطني ليل الرقة، وأعطيكَ نساء دمشق).                           

ليس بعيداً عن الرقة على الطريق الشرقي المتجه نحو دير الزور وفي وقت قيظ الظهيرة توقف بنا سائق الباص في قرية تُسمّى رطلة، وثم مشينا باتجاه سفح جبل يطل على وادي الفرات وصولا باتجاه كهف رطلة وهو كهف طبيعي واسع يمتد لعشرات الأمتار في عمق الجبل ينتهي ببركة ماء صغيرة. كان الكهف بارداً بما يكفي لتنكمش على طفولة تركتها منذ سنوات، وكان هادئاً بما يكفي لتغادر ضجيج الآخرين ومشاغلا تقلق البال. بعد ذلك مشى معنا السائق غير بعيد عن الكهف نحو حفرة طبيعية كبيرة في الأرض تسمى الدويخة يُقدّر قَطرُها وعمقها حوالي 15 متر، وطلب منا التوقف على بعد أمتار منها كونها مسكونة بالسعالى والجن ومن ينظر في عمقها سوف يَتلبسهُ الجن ويُصاب بالجنون.

بعدئذ سوف يتوقف الزمن لأربع سنوات وأعود ثانية إلى الرقة في صيف 1999 لقضاء سنة ونصف كطبيب مقيم في مستشفى الرقة الوطني. ربّما كانت هذه السنوات هي الأكثر تأسيسا في مسيرتي الأدبية والفكرية. حتى الآن، بعد عشرين سنة ما يزال مثقفي الرقة على رأس قائمة أصدقائي ومعارفي. عندما قدمتُ إلى الرقة كنتُ شاعرا مُبتدئا في طور التشكّل، نشرتُ قصيدتين يتيمتين فقط في جريدة الأسبوع الأدبي، وكنتُ مُهتما بالتعرّف والانخراط في الوسط الثقافي الرقّي، هذا الوسط الغني بمثقفيه ومبدعيه بما يتجاوز الحجم الديمغرافي لمدينة سورية صغيرة. شهدتْ قاعة المركز الثقافي القديم في الرقة أول أمسية شعرية لي، كما شهد المركز الثقافي الجديد ندوة نقدية عقب صدور مجموعتي الأولى (طريق بلا أقدام، 2001) حضرها ربما أكثر من 100 شخص من المُهتمين.

سأتوقف هنا للإشارة إلى بضع أصدقاء على سبيل الاستشهاد لا الحصر، أصدقاء من الوسط الأدبي الرقّي في محطات مميّزة. سأتوقف أولا عند المرحوم الشاعر عبد اللطيف خطاب، وهو شاعر من جيل الثمانينات. عبداللطيف شخصية مُختلفة بكل ما تعنيه هذه الكلمة ابتداء من طريقة تسريح شعره الطويل وطريقة كلامه، كان يجلس بشكل شبه دائم في مقهى الواحة، كان نموذجا للمثقف الليبرالي الناقد لثقافة القصور المجتمعي والغير معارض/ الغير مؤيد للسلطة. في حينها كنتُ قد انتهيت من إعداد مخطوط مجموعتي الشعرية الأولى (طريق بلا أقدام) وأخذت موافقة وزارة الاعلام عليها وكنت متحمّسا لطباعتها. أعطيتُ المخطوط له للرأي النقدي، بعد بضعة أيام جاءني بالمخطوط مع ملاحظات كثيرة والتوصية بعدم طباعة المجموعة وحذف قصائد، وبالفعل أعدتُ النظر في بعض القصائد وأعطيته المخطوط الجديد بعد حوالي شهر ليقول لي (الآن أستطيع القول لكَ: أيها الشاعر) وبعد صدور الكتاب أجرى لقاء صحفيا معي تم نشره في مجلة صوت الرافقة. كنتُ أناديه (بالغرنوق الدنف) الذي هو عنوان أحد مجموعاته الشعرية. وكنتُ أناديه أحياناً بالأمير، في إشارة إلى مجموعته (زول أمير شرقي) الفائزة بجائزة مجلة الناقد قبل ذلك. والغرنوق، هو طائر نهري جميل يغلب الارتباك والاحتراس على سلوكه.

في أحد الأمسيات ألقى عبد اللطيف خطاب قصيدته (سفر الرمل) في المركز الثقافي القديم، وقد تركت تلك القصيدة أكثرا شديدا في نفسي، ليس من جهة شعريتها الغرائبية المُختلفة بل من جهة طريقة إلقائه المسرحية، وكون القصيدة تتحوّى شخصيات متعددة فكانت أشبه بالميلودراما، نمت صداقة متينة، وكان الصديق القاص ماجد عويد كثيرا ما يجمعنا على طاولته في أحد المقاصف الفراتية، ومن ميزات ماجد العويد أنه يتحدث اللغة العربية الفصحى المُترفة وكأنه ينطق على لسان أحد شخصياته القصصية. كان عبداللطيف خطاب وماجد العويد يتنافسان على زعامة منصب العازب الأول، ولكن عبداللطيف سبقه إلى الزواج على حين غرة، فقد تطاول بهما عهد العزوبية. أتذكر آخر مرة زرته فيها قادما من دمشق كانت زوجته حامل .. بعد ذلك سوف أتفاجئ بخبر وفاته أثناء عملية جراحية في القلب 2006 تاركا طفلة جميلة إسمها لين. وأربع مجموعات شعرية وذكريات لشاعر لا يغادر الذاكرة.

تعود بي الذاكرة الآن إلى مقهى الفنان التشكيلي الراحل ياسين الجدوع حيث كان من عادتي الالتقاء شبه اليومي برفقة القاص ماجد العويد والشاعر باسم القاسم والشاعر (المختار) نجم الدرويش وكان من عادة الدكتور عبد السلام العجيلي أن يأتي الى مقهى صديقه ياسين الجدوع عقب صلاة العشاء حيث كنّا نستمع الى أحاديثه المُقتصدة والرصينة، كان ياسين يقيم معرضا شبه دائم في المقهى لرسوم سريالية بقلم الرصاص على الكرتون تشبه رسومات سكان الكهوف أو خربشات طفل صغير.. رسوم تثير الكثير من التساؤلات وتبعثُ على القلق. أتذكر أنهُ خصص أسبوعا لعرض رسومات بعنوان الرابعة صباحا! تستلهم اللوحات مادتها من سؤال: ما الذي يفعله الناس في الساعة الرابعة صباحا؟ أم ترضع ابنها، ربما رجل سكران عائد من حانة! عائلة تغط في نوم عميق!  قطط تفيض بها الشهوة حد المطاردة والصراخ!

  كان ياسين الجدوع عصبي المزاج لا تتناسب شخصيتهُ مع ادارة المقهى، فكثيرا ما كان يُلزمنا – نحن أصدقائه- بشرب شاي أو قهوة سيئة التحضير.. وأحيانا يدخل في معارك كلامية وعراك مع المقهى المجاور الذي كان لأقرباءٍ له، و مع ذلك كان قريبا الى نفسي.

في الرقة شاركتُ لأول مرة في حياتي في مظاهرة خارج إطار المُسيّرات التي كانت تنظمها السلطة، فقد صادف وجودي في الرقة بدايات ما عُرف لاحقا بربيع دمشق (2000-2001)، وهناك تعرّفتُ على مجموعة من المثقفين والسياسيين المُعارضين للديكتاتورية أمثال د. اسماعيل الحامض ( مختطف من قبل داعش ) وخليل حمسورك والشاعر معاذ هويدي وأحمد مولود طيار و د. محمود صارم و محمد غانم  و د. محمد الحاج صالح وغيرهم. كانتِ المرّة الأول التي أتعرّف فيها على مُعارضين من غير الخلفية الإسلامية، أتذكّر يوم خرجنا في مظاهرة جابتْ شوارع الرقة تضامنا مع أهلنا في مخيم جنين، مظاهرة حقيقية من دون صور ومن دون شعارات (الآب القائد) وبهتافات مُحرجة للنظام الأسدي، مظاهرة فاجأت الحزب وأجهزة الأمن التي قامت باستدعاء د. محمد الحاج صالح والمحامي عبدالله الخليل (مُختطف من قبل داعش) وتهديدهما على خلفية تلك المظاهرة. بعدها نمت صداقة قوية مع الدكتور اسماعيل الحامض رحمه الله أو ردّه مُعافا إلى أهله، لا نعلم!  كنتُ أزوره في عيادته مع موعد انتهاء الدوام المسائي، وجدتُ فيه شخصية المُثقف الشجاع المُعارض لسلطة الاستبداد والمعارض للاسلام السياسي وثقافة القصور المجتمعي معا، كان كتلة متحركة من الحماس والتفاؤل.

لاحقا وأثناء زيارتي للرقة 2006 دعاني لعشاء في مطعم المحطة (محطة القطار) كان يائسا مُحبطا من حجم التفاعل والتأييد الشعبي لحسن نصرالله بعد حرب تموز 2006 قال لي بما معناه (لو قام السوريون بثورة على نظام الاستبداد الأسدي فسيكون حزب الله أول من يطلق عليهم النار! نحن شعب عاطفي وحماسي يا صديقي) بعدها حاول السفر لفرنسا لمتابعة تخصص طبي ولكن السفارة الفرنسية رفضت طلب الفيزا، مما اضطره للسفر للسعودية وهناك تواصلتُ معه، لكن حالما بدأت شرارة الثورة السورية ترك السعودية وقالي لي على الهاتف أنا مكاني بين الناس والشعب، هذه اللحظة التي كنتُ انتظرها طول عمري، كرس ماله وجهده وعلمه لخدمة الثورة في الرقة ومعالجة الجرحى، ومع سيطرة داعش على الرقة تم اختطافه، ولا أحد يعلم شيئا عن مصيره.. كسرتْ قلبي يا أبا حازم!

من الظواهر المُلفتة في الرقة والتي عاينتها كانت ظاهرة المقاهي والجلسات الثقافية

كنتُ قد أشرتُ إلى مقهى الفنان التشكيلي ياسين الجدوع وإلى جواره يوجد مقهى الواحة وهو مقهى يغلب على رواده الأدباء القصاصين هناك تعرّفتُ على: يوسف دعيس ومحمد الحاج صالح وابراهيم العلوش ومعن حسون ومحمد جاسم الحميدي وتركي رمضان. على الطاولة غالبا ما تجد جريدة الحياة والشرق الأوسط والسفير متاحة للتصفح، ونقاشات أدبية سياسية عميقة مع قليل وكثير من النميمة الغير مؤذية، كان جلّهم من القصاصين، حيث كانت الرقة في حينها تلقّب بعاصمة القصة القصيرة في سوريا. وفقا لإحصائية أجراها الدكتور نضال الصالح كان عدد المجموعات المطبوعة لأدباء الرقة يتجاوز السبعين مجموعة قصصية (سمعتُ هذه المعلومة منه في محاضرة ألقاها في فرع اتحاد الكتاب العرب- الرقة). كان محل القاص يوسف دعيس للتصوير بمثابة جلسة ثقافية مسائية محببة للقلب وجمعية ثقافية مصغرة، وكذلك كانت مكتبة بورسعيد في شارع المنصور لصاحبها أحمد الخابور أيضا بمثابة ملتقى عابر للمثقفين مشتري ومتصفحي الجرائد والمجلات أيضا، وقد شهدت حديقة بيت الشاعر عايد سراج كذلك جلسات شعرية جميلة حيث كان يستقبلنا وهو يسقي النباتات ويرشرش الأرض لنستمتع برائحة تشبه ما بعد المطر، كان ينضم إلينا بعض الأصدقاء أحيانا كالشاعر حسام الفرا والشاعر ابراهيم النمر.

كان المركز الثقافي في الرقة نشيطا حيث لعب الشاعر ابراهيم الزيدي وآخرين دور كبيرا في تنظيم نشاطات واحتفاليات ثقافية كبيرة من قبيل مهرجان عبد السلام العجيلي للرواية العربية بدوراته المتعددة وبمشاركة عدد كبير من النقاد والروائيين العرب وحول العالم .. حيث كان يتم تخصيص كل دورة في المهرجان لمناقشة موضوع معين.

لا يكتمل الحديث عن المشهد الثقافي في الرقة دون الحديث عن طقس الرحلة النهرية من توتول إلى ماري. توتول هو الاسم القديم لمدينة الرقة، وماري هي المملكة العمورية الشهيرة التي تقع حاليا في موقع تل الحريري قرب الحدود السورية العراقية. الرحلة هي طقس شبه متكرر على مدى سنوات، حيث أول من قام بها الفنان التشكيلي محمد العقلة وعز الدين بوزان 1996 ومن ثم تكررت على مدى سنوات لاحقة بشكل غير منتظم. كان لي متعة المشاركة فيها في شهر آب 2008. انطلقت الرحلة من مدينة الرقة على متن قارب بدائي بجهد شخصي من الأستاذ أحمد جبرائيل (أبو زاور) وهو ميكانيكي المهنة، يعيش الحياة بطريقة شعرية وقد أمتعنا كثيرا بحديثة عن سيرة أجداده الشيشان وكيف تم تهجيرهم ومن ثم استيطانهم في ريف الرقة الشمالي. شارك في الرحلة الشاعر طالب هماش والناقد هايل الطالب والروائية فوزية المرعي والفنان التشكيلي حسن مصطفى والمصور سلمو سلمو والباحث أحمد سويحة. استمرت الرحلة حوالي عشرة أيام وقطعت حوالي 300 كم. فكرة الرحلة هي استعادة خطى رحلة قديمة في الألف الثاني قبل الميلاد حيث تمّ زفاف الأميرة (شيبتو) ابنة ملك أوغاريت إلى ابن ملك ماري (ياريمليم) وقد وجدت تفاصيل هذه الرحلة في الرُّقم التي تم العثور عليها في مكتبة القصر الملكي في ماري.. هكذا سمعتُ من أصدقاء الرحلة الرقاويين.

 في الحقيقة كانت تجربة الرحلة النهرية حدثا فريدا وتجربة غنية على المستوى الشخصي، حيث تتشكل عائلة مؤقتة تضم مجموعة من المثقفين قد يلتقون ببعضهم دون سابق معرفة، هناك تحدي الاستكشاف ومتعة العيش ضمن جماعة! ويحضرني هنا مشهد انعكاس القمر والنجوم على صفحة الماء المترقرق، كما لا أجمل من منظر الحوائج النهرية، وهي جزر نهرية صغيرة كثيفة الأشجار كنّا نستريح فيها لتناول الطعام والنوم لفترات قصيرة. كما توقفنا في مواقع أثرية عديدة على ضفتي النهر كمدينتي حلبية زلابية قبل دير الزور ومدينة العشارة بعد دير الزور. كان لنا محطة في مدينة دير الزور، وقد استضافنا الصديق الشاعر بشير عاني في منزله (استشهد على يد داعش لاحقا) وخلال مسيرة الرحلة كتبت فوزية الرعي رواية بعنوان (قارب عشتار) خلال فترة الرحلة استلهمتها من الحدث التاريخي والحاضر المُعاش.

الحياة التشكيلة كما عاينتها في الرقة غنية على مستوى عدد الفنانين التشكيليين ونتاجاتهم، ولكن دونما تنظيم وعمل ثقافي مؤسساتي، ودونما حضور مُستحق يتجاوز حدود المحافظة. يذكرني هنا المرحوم محمود غزال التي كانت معظم أعماله مُستوحاة من الطقوس الصوفية ورقصة المولوية ، وكذلك المرحوم موسى الحمادي حيث يحضر التراث المعماري وتفاصيل الحياة الريفية للمرأة الفراتية في أعماله، كما يمكن الاشارة إلى أعمال الفنان هاشم الألوسي ذات الطبيعة السريالية الصادمة والمدهشة وقد أهداني أحد أعماله كغلاف لمجموعتي الشعرية الثانية ( ملكوت النرجس)، كذلك الفنان خليل حمسورك المُختص في الحرق على الخشب ، والصديق موسى الرمّو المُجتهد في تقديم مجسّمات حداثية، حيث أهداني بمناسبة زواجي مجسّم مدهش بعنوان (عازف الغيتار) مشغول من خردة الحديد وجنازير الدراجات. كنتُ أعرضه في غرفة الضيوف وكثير من زوار بيتي – من خارج الوسط الثقافي- من الأقارب والأصدقاء كانو يستغربون وجود هذا المُجسم حيث كان مادة مُناسبة للاستغراب والسخرية من الفن الحديث في جو من الدعابة الغير مؤذية.

كما يمكن  هنا التوقف قليلا عند فرقة العجيلي للرقص الشعبي التي أسسها اسماعيل العجيلي وساهمت في تقديم الفلكلور الرقي سوريا بشكل جميل ولائق.

في الختام يوجد شعور عند أغلب مثقفي الرقة بكون الرقة محافظة مُهمشة من قبل السلطة وأن الأديب الرقي مُحارب! في الحقيقة أختلف مع هذا الرأي فالشعور بالتهميش هو قاسم مشترك لكل السوريين، فأي محافظة سورية سوف تستمع فيها لحديث مشابه بما يشبه محافظات الساحل السوري. القضية تتعلق بالمركز والهوامش .. فالمثقف الرقاوي المقيم في دمشق سوف يحظى بفرصة أكبر للتواصل مع وسائل الاعلام والمسؤولين عن تسيير حال الثقافة السورية، ولا يوجد قرار مُسبق بتهميش الرقة أو غيرها ثقافيا. بغض النظر عن هذا الرأي النمطي قدّمت الرقة عددا كبير من المبدعين السوريين وشهدت حياة ثقافية غنية بما يتجاوز حجمها الديمغرافي. لنحاول تقديم اجابات حول ذلك؟                                                                           

أولا- ربما شكّلت ريادة الدكتور عبد السلام العجيلي الأدبية نموذجا مُلهما للأجيال اللاحقة من القصاصين والروائيين في الرقة.

ثانيا- لنتذكر أن مدينة الرقة كانت مجرد بلدة صغيرة في النصف الأول من القرن العشرين، وقد شهدت مع وصول البعث للسلطة هجرة كبيرة إليها من ريف المنطقة المُمتد(الشوايا) ومن باقي المحافظات السورية أثناء تشييد سد الفرات وقبله بسبب كوارث طبيعية وأحداث تسببت في نزوح عائلات كثيرة  من السخنة ودير الزور وريف حلب كذلك. باختصار يوجد لدينا مزيج بشري متنوع اللهجات والثقافات المحلية، وعادة ما يرافق استيطان أهل الريف والبادية للمدن ظهور طفرات ابداعية ونجاحات فردية في الجيل الثاني والثالث للأسر الوافدة من مبدأ التحدي والاستجابة في إثبات الذات.

ثالثا- لم يستطع الاخوان المسلمين والتيارات السلفية تحقيق اختراق للمجتمع الرقّي، حيث أنّ هذه التيارات بطبعها تعادي الفنون والآداب. كان المجتمع الرقّي مُتحررا إلى حد ما بالمقارنة مع مجتمعات المدن السورية الداخلية، فمثلا من المُعتاد جدا وجود فتيات غير محجبات أو حجاب شكلي، ويوجد الكثير من الأماكن والمطاعم التي تقدم مشروبات كحولية مثلا! لا وجود لظاهرة النقاب والحريم، فالمرأة الرقّاوية عادة ما تستقبل الضيف مثلا دون حرج! ينبغي أن لا يُفهم من كلامي أن ما سبق هو فقط مقياس للحيوية والتعافي الاجتماعي، ولكنه وضع أكثر انفتاحا من مجتمعات سورية أخرى بالمقارنة! بالمقابل يشكو المجتمع الرقّي من مرض التعصب القبلي والعشائرية والثأر ونحوه بشكل أكبر من مجتمعات سورية مدينيه أخرى.                     

ولكي لا نستسلم لهاجس الاستثناء والتفرد .. كانت الرقة محافظة ومدينة سورية تتشارك مع المحافظات والمدن الأخرى ثقافة الاستبداد الاجتماعي والسياسي في مملكة اسمها سوريا الأسد.