هشاشة التاريخ.. تاريخ الرقة في كتب أهلها

0

رشيد الحاج صالح، أستاذ جامعي سوري وباحث ومحلل سياسي، يقيم في السويد.

أوراق 19- 20

الملف

لا تتجاوز الكتب التي أرخت للرقة وعشائرها، وتطورات الحياة فيها بضع كتب. وهي في أغلبها كتب تقليدية تشبه الثرثارات التي ترافق الجنازات، والتي تتحدث حديثا مبالغا فيه عن الخصال الحميدة للمتوفى من دون أي اكتراث بحقيقة هذا الشخص، وهمومه التي قد تكون نالت منه في النهاية. حتى أن الذي يقرأ تلك الكتب لا يكاد يعرف أي شيء مهم عن حياة الرقيين ومعاناتهم والتغيرات التي وجدوا أنفسهم وسطها. 

والمتابع لتلك الكتب التي أرّخت للرقة (من أهلها) يكاد لا يجد، لا قبل الثورة (وهذا مفهوم بالقياس لمستوى الحريات آنذاك)، ولا حتى بعدها لأي تأريخ للمشكلات والتحولات الكبرى التي عصفت بهم. فمثلا لا تجد أي تأريخ للجفاف الذي أرخى ستائره الثقيلة على حياة أهلها ومستوى معيشتهم، ولا أي حديث عن إهمال الدولة لذلك الجفاف، مثلما لا يجد أي أثر لحرمان بناتها من التعليم الجامعي لسنوات طويلة بسبب عدم افتتاح جامعة فيها حتى عام 2006. ولا أي تأريخ لمساجينها السياسيين سواء كانوا ينتمون للبعث العراقي أو الشيوعيين أو غير ذلك، ولا حتى للمدراء الغرباء الذين قدموا إليها من خلف الفرات قدوم الفاتحين، ليؤمنوا مستقبل أولادهم متناسين مستقبل أولاد الرقة. مثلما لا تعثر على تأريخ للتهجير الطوعي، الذي بدأ مع ثمانينات القرن المنصرم، والذي رمى مئات الألوف من أبنائها في سهول لبنان وصحاري الخليج العربي طلبا للرزق الذي حرموا منه، وكأنه تدريبا مبكرا على التهجّير الكبير الذي لم يكن في الحسبان بعد عام 2011. ذهبوا ليزرعوا البقاع اللبناني (قُدّر عدد العمال السوريين في لبنان نحو نصف مليون عامل في التسعينات) وهم أبناء أكبر مشروع زراعي في العالم العربي (كانت هناك وزارة في السبعينات أسمها وزارة سد الفرات) وصفته كتب الجغرافيا التي درّسوها لنا بأنه ” السلة الغذائية للوطن العربي”، حيث تحول من أهم مشروع زراعي في الوطن العربي إلى أفشل مشروع تأكل الديدان والحشرات والفساد محاصيله أمام أعين الأهالي.

كتب التاريخ الإداري والاجتماعي

تنقسم كتب تاريخ الرقة إلى قسمين: الأول، كتب تؤرخ للرقة رسميا وإداريا، وهو تاريخ يعتمد على الوثائق العثمانية والفرنسية وبعض الإحصاءات المحفوظة وكتب التاريخ القديمة، وأبرز هذه الكتب: كتاب “أهل الرقة” بجزئيه للكاتب محمود الذخيرة، وكتاب “الرقة وبلدياتها”، وكتاب “حضارات وادي الفرات – مدن فراتية، القسم السوري” لعبد القادر عياش ووليد مشوح، وكتاب “الندوة الدولية لتاريخ الرقة وآثاراها. بالإضافة على الدراسات الأرشيفية لحمصي فرحان الحمادة حول أسماء حارات الرقة والتأريخ لبعض شخصياتها، وغيرها من الكتب المهتمة بهذا الجانب. والمؤسف أنه يغلب على هذه الكتب نوع من التأريخ يطلق عليه “التأريخ المحنط” الذي يختصر مجتمع الرقة بمجموعة من القرارات الإدارية والوقائع التاريخية والسجلات الأرشيفية، من دون أي ذكر – مثلا – للمسألة الأمنية الكبرى التي روعت أهلها لعشرات السنين: تهمة الانتساب للبعث العراقي، والتي ذهب ضحيتها مئات الرقيين وقضوا عشرات السنوات في السجون. يضاف إلى ذلك أنه وعلى الرغم من تناولها للجانب الإداري والرسمي إلا أنها لا تنبس ببنت شفه عن الفساد الإداري المنتشر في المحافظة، أو بيع المناصب الذي أنتشر بشكل شبه علني منذ ثمانينات القرن المنصرم. مثلما لا تروي تلك الكتب كيف تحولت محافظة الرقة (بسب الإهمال التعلمي والاقتصادي الخدمي المديد) إلى محافظة نامية في الوثائق الرسمية.

وعلى العموم فإن هذه الكتب تلعب ثلاثة ألعاب معروفة لدى المؤرخين الذي لا يريدون أن يأتيهم ” وجع رأس” من كتاباتهم؛ أي الكتابة بدون أي مسؤولية أخلاقية تجاه أهل مدينتهم والمظالم التي عاشوها: اللعبة الأولى هي العودة إلى التاريخ البعيد (الروماني والأموي والعباسي) أو التاريخ القريب (العثماني والفرنسي)، وكأن حياة أهل الرقة توقفت عند ذلك التاريخ. وتأتي هذه الكتابات كنوع من التعويض الوهمي بأن أهل الرقة لهم مكانتهم التاريخية على الرغم من أن مصير أكبر شخصية رقيّة مرهون بيد أصغر عنصر في الفروع الأمنية. أما اللعبة الثانية فهي تناول وجهاء الرقة وأدباءها وفنانيها ومثقفيها عبر نوع من المبالغة في الإنجازات، والتفخيم في المكانة. وتعتبر هذه اللعبة من أكثر الألعاب لا أخلاقية. فبدل الاحتجاج على ضعف التعليم وتهميش أهل الرقة يتم اللجوء إلى الافتخار بشخصيات أدبية وثقافية على أنها دليل على أن اهل الرقة ليسوا كلهم بلا قيمة وثقافة وعلم. في حين تمثلت اللعبة الثالثة بعدم التطرق، لا من بعيد ولا من قريب، للأحداث والتحولات السياسية الكبرى التي عاشتها المنطقة بعد عام 1963، لأغلاق باب السؤال الأمني من أي جهة كانت، ولضمان سهولة الحصول على موافقة وزارة الإعلام على النشر (موافقتها يعرفها كل من نشر كتابا في سورية). 

كتب العشائر والوجاهة

أما النوع الآخر من التأريخ للرقة فهو كتب العشائر والتراجم. وهي كتب تؤرخ لأصل العشائر وسيوخها، ولذلك تجدها تفرد مساحة واسعة لبعض الشخصيات العشائرية والاجتماعية من أهالي المنطقة. وتشبه كتب العشائر قصائد المديح العربية ذائعة الصيت، حيث يجّمع فيها المؤلف أسماء عشائر الرقة، ويثني على شيوخها ووجهائها، ويحدد مناطق سكن كل عشيرة ويعدد خصالها الحميدة. وقد أزدهر هذا النوع من الكتابة في مرحلة التسعينات، على الرغم من أنه لا يقدم أي قيمة اجتماعية أو علمية تذكر، بل إنه يحتذي خطا الكتب التي أرخت لحياة وتجربة حافظ الأسد، المليئة بالبطولات الوهمية والمديح المجاني. أما السبب في أنها تمدح أكبر عدد من الناس والوجهاء، وتعلي من قيمة الجميع بدون استثناء، فيعود إلى أن الهدف الأساسي لمؤلفيها هو بيع الكتاب إلى أكبر عدد ممكن من أبناء المنطقة. حتى أن هناك من كان يبيع كتبه بنفسه، ويطبعها على حسابه الخاص بوصفها “عملية تجارية بحتة”.

ومن أهم هذه الكتب نذكر: كتاب عشائر الرقة والجزيرة لمحمد عبد الحميد الحمد، كتاب تاريخ مدينة الرقة لأحمد سعيد وكرم بشير (اللافت أنه صدر من بغداد عام 2018)، كتاب معجم العشائر الفراتية لأحمد الشوحان. 

في الفرق بين التأريخ والتكسّب

في الحقيقة يميز ابن خلدون، وبوضوح، بين كتب التاريخ والكتب التي لا علاقة لها بالتاريخ، كعلم ومهنة، على الرغم من تناولها لأحداث ووقائع وتاريخية؛ بين المؤرخ العارف بشؤون التاريخ وعلله، وبين من يسميه “بليد الطبع والعقل”[1] ممن أخذ يكتب التاريخ أما للتكسّب أو للشهرة من دون دراية بأهمية التاريخ وعبره. فهذا النوع الثاني من الكتب لا يصلح لدراسة التاريخ وتدبره لأنه مجرد سرد بليد للأحداث، وتوثيق أبكم للأخبار، وذكر أحوال الأعيان على الصورة التي يرغبون أن يكونوا عليها. وليس لهذا النوع من التأريخ أي أهمية لأنه خالي من أي معنى عقلي أو علمي. فهو ينطلق من أن غاية التاريخ تتمثل في ذكر القصص والأخبار والأسمار، أي كتب للوجاهة والتباهي ليس إلا.

ويبدو أن مثل تلك الكتب انتشرت في الرقة، وفي سورية عموما، للاستفادة ومن التوظيف السياسي لها؛ لإيهام أهل المنطقة بأنهم أبناء حضارات كبرى، وأصحاب حصون كان لها دورا بارزا في التاريخ، وأبناء قبائل كانت ذات شائن في زمانها الغابر، وبالتالي عليهم أن يعتزوا بأنفسهم، حتى لو كان من يحكمهم أمين فرع حزب بليد وفاسد، أو محافظ أعطيت له الرقة، ليجمع منها ثروة تحفظ له كبرته وكبرة أحفاده وأحفاد احفاده، كمكافأة على إجرامه ومشاركته في المحاكم الميدانية التي حصدت مئات الضحايا في أحداث الثمانينات (ونقصد المحافظ محمد نجيب السيد أحمد).

حتى أن تلك الكتب غالبا ما تخفي ضعفها، وخوفها من السياسية، عبر تحويل التاريخ إلى مجرد كلام عن تراث الرقة، وعادات أهلها الأصيلة، وأشياء من هذا القبيل. أو التركيز على التراث الفني الغني لأهل المنطقة. ولعل هذا ما يفسر انتشار كتب التراث الشعبي الرقاوي والأغاني الفراتية. ومن هذا الكتب نذكر: كتاب “شعراء الموليّا في القرن العشرين”، وكتاب في “الشعر الشعبي الرقيّ” لمحمد الموسى الحومد.

غياب التأريخ السياسي

يضاف إلى كل ذلك أنها كتب لا تتحدث عن كيف تفاعل شيوخ عشائر الرقة مع تجربة حكم البعث، ونظرته إليهم بوصفهم قوة رجعية وعميلة للإقطاع (على حد وصفه). وكيف أنتهى الأمر بغالبية شيوخ تلك العشائر إلى الخضوع لنظام البعث وفق معادلة “الولاء مقابل الوجاهة”. وهي معادلة تقوم على مبدأ “عديلي واعديّك”؛ أي ساعدني على فرض هيمنتي وسأمنحك قدرا معقولا من الوجاهة والمكاسب. 

فهي كتب تدرس أهل الرقة وكأنه ليس لهم مظالم يعرضونها، بل أصول يفتخرون بها، ولا حقوق يطالبون بها، بل إنجازات قُدمت لهم ويفتخرون بها، ليس لديهم أرزاق يسعون إليها، بل عطايا وفتات يفرحون أذا حصلوا منها على النزر اليسير. ولذلك فإنها كتب لا تغوص في الظواهر وتفاعلاتها، ولا في الأحداث وأسبابها، ولا في التغيرات الاجتماعية ونتائجها. حتى بلغت الوقاحة في كتاب “الندوة الدولية لتاريخ الرقة وآثارها” أنه قدم دراسة تصف مشروع الفرات بأنه “أحد معالم التطور الحديثة” في سورية على الرغم من أن الإهمال والحشرات والفساد سحقت هذا المشروع الذي يبعد فقط عدة كيلو مترات من مكان تلك الندوة. بل أن هناك من قدم بحثا لتلك الندوة عن “تطور القوة البشرية والعاملة” في الرقة في وقت أخذ عشرات الآلاف من تلك القوة البشرية تعاني من البطالة، وتحزم أمتعتها وتجهز نفسها للسفر خارج سورية بحثا عن دخل يحفظ وجودهم وحياتهم. 

وعلى الرغم من كل ذلك تبقى سلسلة بحوث معبد الحسون ” الرقة من العشيرة إلى الثورة”، وعدد من الباحثين الشباب، تغرد خارج السرب، وتحكي لنا عن الأهوال والمظالم التي عاشتها المدينة، قبل الثورة وبعدها. حيث يشرح لنا الحسون أن الحكم الأسدي شعر – منذ بداية السبعينات – بأن أهل الرقة وعلى الرغم من مهادنتهم له وقبولهم به بسهولة إلا أنهم لم يكونوا مكترثين به، ولم يعني لهم البعث شيئا يدعو للاحترام[2]. وهو الأمر الذي جعل الأسد لا يحب هذه المدينة ويسعى لتهميشها، سميا وأن غالبية أهل الرقة كان يشعر بتعاطف كبير مع العراق في حربه ضد إيران.

طبعا استثنينا من مقالنا هذا كتب المنقبين عن الآثار وأعضاء البعثات الأثرية والرحالة والمستشرقين. فهذه الكتب على العموم تم تأليفها إمّا لأسباب علمية، أو لإعداد رسائل ماجستير ودكتوراه، أو لأسباب سياسية ولوجستية تتعلق بوضع خرائط للمنطقة لأسباب عسكرية (زمن العثمانيين والفرنسيين)، مثلما تتعلق بالسيطرة السياسية ومعرفة أحوال أهل المنطقة ونسبهم وقوميات ومواردهم، بالإضافة إلى التوسع في معرفة عاداتهم وطرق عيشهم وأخلاقهم، وذلك لوضع تصور عن كيفية التعامل معهم سياسيا، سيما وأن الصراع على المنطقة العربية أشتعل منذ آواخر القرن التاسع. وقد استثنينا هذا النوع من كتب التأريخ لأنه لا يفترض بمثل تلك الكتب، على أهميتها العلمية والتأريخية المشهود لها، أن يحمل مؤلفيها مسؤولية أخلاقية وسياسية تجاه المنطقة وأهلها.

 ومن أبرز تلك الكتب التي صدرت في هذا السياق هناك كتاب” الرقة وأبعادها الاجتماعية” للباحثة الفرنسية صونيا فرّا. وكتاب “البدو”، بأجزائه الأربعة للألماني ماكس أوبنهايم، وكتاب “قبائل بدو الفرات” لآن بلنت.

ما يمكن الركون إليه في نهاية هذا المقال ثلاث قضايا نريد إبرازها هنا:

الأولى، أنه لا يمكن لوم مؤرخي الرقة كثيرا على سطحية إنتاجهم وبلادة كتاباتهم، فوضع مؤرخي مناطق سورية الأخرى ليس أحسن حالا. ولكن ما نريد أن نقوله إن على المثقف ألا يقبل على نفسه أن يكون مجرد آلة تعمل ما هو مطلوب منها دون أي غيرة على منطقته ومصالحها التي تناهبها كل من وطأ أرضها. لا يجوز أن يكون المثقف مجرد جزء مما تسميه حنا أرندت حياة “التفاهة” التي ينمّط الحاكم المتسلط البشر عن طريقها.

الثانية، أن التفكير التاريخي قد يلعب دورا محركا للتاريخ ومحفزا لإمكانات موجودة فيه، مثلما قد يتحول إلى معيق للتاريخ وطامر للمشكلات التي يعاني منها شعب من الشعوب. التأريخ بالطرق التي تحدثنا عنها يخلق نوعا من الوضع المزيف الذي يخدِّر الناس، ويجعلهم يتخيلون أنهم راضين عن حياتهم، ويفخرون بتراثه وقلاعه، في حين أن حياتهم أصعب مما تخيلته كتب التأريخ تلك. وهو ما أظهرته انتفاضة السوريين عام 2011، حتى أن كون الرقة أول محافظ “تحررت” من النظام الأسدي يبدو أنه ذو دلاله. يذكر أن مدرسة الحوليات الفرنسية، ولا سيما فرناند بروديل وجاك لوغوف، تؤكد أن التأريخ قد يصنع الواقع أكثر مما يعبر عنه في كثير من الأحيان.

الثالثة، أن تلك الكتب تعطي انطباعا غير دقيق بأن أهل محافظة الرقة، ومنطقة الفرات عموما، ما زالوا يعيشون حياة بدوية تقليدية، وما زالت العشيرة هي المكون الأساسي في المنطقة، والكيان الذي يستمد الرقاوي منها قيمه وأخلاقه وآراءه السياسية. والحقيقة أن الأمر ليس كذلك فقد بينت الثورة السورية أن الانتماء العشائري هو انتماء ثقافي واجتماعي، وليس له بعد سياسي، بدليل أن أهل العشرة الواحدة، بل حتى إبناء الأسرة الواحدة انقسموا (أفقيا) بين مؤيد ومعارض. مما يعني أن العشيرة في ذهن الرقاوي هي كيان اجتماعي وثقافي وليس لها أي دور سياسي. فالرقاوي يحترم عشيرته، ويقِّدر مكانتها، ويحرص على القيام بواجباته تجاه العشيرة ويعتز بها، لكنه بنفس الوقت ليس لديه أي قناعة سياسية بشيوخها ودورهم السياسي. وهذا يعني أن الرقاوي بات متمدنا في تفكيره السياسي والاجتماعي أكثر مما تعتقد تلك الكتب التي تكتب عنه. ولعل هذا الوعي السياسي هو ما يفسر أن كل الأطراف التي تسعى للسيطرة على الرقة اليوم تجد صعوبة في أن تجعل من أهلها حاضنة سياسية لهم.


[1] – ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ج1، تحقيق عبدالله محمد درويش، دمشق، دار يعرب، 2004، ص 83.

[2] – معبد الحسون، الرقة من العشيرة إلى المدينة: المخفر العثماني.. دويلات عابرة.. البعث والجهاديون. راجع المقال على الرابط التالي: http://alaalam.org/ar/society-and-culture-ar/item/540-655220617.