عمر قدور: التحرّش في سوريا والنووي لأوكرانيا

0

عادت الطائرات الروسية يومَي الأربعاء والخميس الماضيين إلى التحرش بطائرات مسيَّرة أمريكية، في منطقة التماس بين الجانبين الواقعة شرق الفرات. ثم، في تطور لافت، قامت طائرة سوخوي35 بالتعرض لطائرتَي رافال فرنسيتين، كانتا في مهمة أمنية روتينية على الحدود السورية-العراقية، فاضطر الطيارون الفرنسيون إلى القيام بمناورة لتفادي خطر الصدام. وكانت هناك سوابق للممارسات الروسية استدعت تعزيز أسطول المقاتلات الأمريكية في المنطقة، أما الاستفزازات الأخيرة فتأتي مع مناورات مشتركة للقوات الجوية الروسية وطيران الأسد، غايتها “حسب بيان لوزارة الدفاع الروسية” ممارسة السيطرة على المجال الجوي في سوريا، وفحص كفاءة أنظمة الدفاع الجوية الروسية.  

يوم الأربعاء أيضاً، نقلت وكالة سبوتنيك تصريحات جديدة لنائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي ديمتري ميدفيدف، وهو كما أشرنا من قبل يتولى مهمة التهديد بالأسلحة النووية. قال ميدفيدف، في أوضح تهديد له حتى الآن، أن الحروب تنتهي بسرعة إما بتوقيع اتفاق سلام، أو كما أنهت الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية “أي باستخدام النووي”. ونوّه ميدفيدف بأن بلاده قادرة على حسم الحرب في أوكرانيا، فيما لو توقفت الولايات المتحدة وحلفاؤها عن إمداد كييف بالسلاح.

في اليوم نفسه، أفردتْ مجلة نيوزويك الأمريكية مساحة ملحوظة للتصريحات الاستخباراتية، الواردة من مخابرات وزارة الدفاع ووكالة المخابرات الأمريكية، حول الأحوال الروسية الحالية وما يمكن أن تؤول إليه. المُتّفق عليه ضمن التصريحات التي نقلتها المجلة أن اللحظة الحالية حساسة وعصيبة، ولا يمكن التكهّن بما قد يصدر عن بوتين. بناء على ذلك، يتحاشى مسؤولو الإدارة الأمريكية الإدلاء بتصريحات قد تعتبرها موسكو استفزازية، وكان واضحاً التحفّظ الأمريكي إزاء تمرّد طباخ بوتين، بينما بقي في الحدود الدنيا ردُّ فعل واشنطن الإعلامي على نشر أسلحة نووية روسية في بيلاروسيا.

على جبهات القتال في الشرق والجنوب، لم يحقق الهجوم الأوكراني المضاد أفضل النتائج، إلا أن ضراوة المعارك والتقدم الأوكراني البطيء فيهما دلالة على الخسائر والاستعصاء الروسيين في الورطة الأوكرانية. يُذكَر أن القوات الأوكرانية تقاتل تقريباً بلا غطاء جوي فعّال، ومن المنتظر أن تزداد ضراوة المعارك متى حصلت كييف على السلاح الجوي الغربي الموعودة به، وقوبل الإعلان عن تدريب أوكران على الطيران الغربي “تمهيداً لتوريده” برد فعل روسي غاضب جداً اعتبره مشاركةً غربية مباشرة في الحرب.

إذاً، من المؤكَّد أن الأيام القليلة بعد “معالجة” تمرّد بريغوجين شهدت تصعيداً روسياً على جبهتي سوريا وأوكرانيا، بينما يُقابَل التصعيد بضبط نفس غربي، حيث يكتفي الغرب بما يحدث فعلاً لجهة استنزاف بوتين في أوكرانيا. التصعيد الروسي تعدّى الوظيفة الإعلامية، إذا كان المراد به التغطية سريعاً على سيرة التمرد. ومن المعتاد في لغة السياسة أن مَن يهدِّد ويتوعّد قد يكون الأضعف، ويكون الغرض من تهديداته إجبار الخصوم على التفاوض معه لئلا يرتكب “حماقة” يصعب التحكّم في تداعياتها.

تهدِّدُ الطائرات الروسية بتفجير الوضع المستقر على الجبهات السورية، في حين يهدد ميدفيدف بحسم نووي في أوكرانيا، ما لم يوقف الغرب إمدادات السلاح ليسمح لموسكو بحسم المعركة بالأسلحة التقليدية! على الجبهة الأوكرانية، يبدو شبح الكارثة النووية ماثلاً على نحو ملتوِ، وهناك مفاوضات لم تحرز تقدّماً لا عودة عنه حول الوضع في محطة زابوريجيا التي تتهم كييف القوات الروسية بزرع عبوات ناسفة على سطحها، ما ينذر بكارثة مصدرُها المحطة النووية الأكبر في أوروبا، فضلاً عن التلميحات الروسية المستمرة التي يُفهم منها الاستعداد لاستخدام قنابل نووية “تكتيكية”.

لن تفتح موسكو ساحة جديدة لمواجهة عسكرية مع واشنطن في سوريا؛ ميزان القوى لا يسمح لها بهذه المغامرة. لكن من جهة أخرى لا يمكن التغاضي التام عن الاستفزازات الروسية في سوريا، واعتبارها بلا هدف إطلاقاً، فالساحة السورية بقيت طويلاً بمنأى عن خلافات البلدين في أماكن أخرى من العالم، بل هي “منذ التدخل العسكري الروسي عام 2015″ بمثابة نموذج مثالي على التعايش بين القوات التابعة لكلٍّ منهما. التحرّش الروسي بالمسيَّرات الأمريكية، ثم بالطائرات الفرنسية، قد يكون على سبيل التذكير بهذا المثال الجيد على التعايش، والتهديد بالانقلاب عليه ضمن مغامرة بوتينية لا تُعرف أبعادها، أو التذكير بـ”إيجابيته” كدعوة لاعتماده نموذجاً يُحتذى به للتعايش في أوكرانيا.

لكن بوتين يقدِّم، انطلاقاً من سوريا أيضاً، النموذج الذي يدفع إلى توخّي الحذر منه، فهو قد حظي بأقصى تسامح وتواطؤ أمريكي-غربي منذ دخول قواته إليها حتى الآن، وانقلابه على التوازن المُتّفق عليه لن يكون لصالحه في أي اتفاق مقبل يسعى إليه في أوكرانيا. وإذا وصف البنتاغون استفزازات الطيارين الروس في سماء سوريا بأنها غير مهنية فإن السلوك الروسي في الجانب الإنساني هو الأشدّ سوءاً، تحديداً في ما يتعلق بآلية الأمم المتحدة لإدخال المساعدات إلى مناطق شمال سوريا خارج سيطرة الأسد. فمع التهديدات النووية واستفزازات الطيارين، عادت نغمة رفض تجديد دخول المساعدات الأممية عبر الحدود التركية، ولسان حال الابتزاز هذه المرة أن مَن يهدد بالنووي لن يتورع على التسبب بمجاعة لأربعة ملايين لاجئ سوري في تلك المناطق، علماً أن تفويض الأمم المتحدة ينتهي ويحتاج تجديداً في العاشر من الشهر الجاري.

يصحّ القول أن تمرّد طبّاخ بوتين كان تعبيراً عن أزمة الثاني، وهي أزمة مستمرة ويبدو أنها ضاغطة إلى حدّ يُخشى فيه أن ينزلق بوتين إلى تقليد بشار الأسد عندما استخدم السلاح الكيماوي. ورغم كل ما هو شائع عن صعوبة ومحاذير استخدام السلاح النووي، هناك خشية غربية من أن بوتين قد لا يتورع عن فعل ذلك، وإذا استحضرنا مثال الأسد والكيماوي للدلالة على مأزق الأسد قبيل استخدامه فهو يصلح أولاً للتذكير بمكسبه من صفقة الكيماوي التي انطوت على بقائه في السلطة وبقائه خارج المحاسبة.

يراهن بوتين على أن الغرب، في أشدّ ضغوطه عليه، لا يريد له الوصول إلى ما وصل إليه الأسد، وهو بالتصعيد الأخير يبتزّ الغرب مهدِّداً بالذهاب أبعد مما يريد. ثمة استحقاق قريب جداً قد يكشف عمّا آلت إليه العلاقة بين الجانبين، بعيداً عن استعراض التصريحات والطيارين، هو تجديد تفويض الأمم المتحدة لإدخال المساعدات إلى الشمال السوري. ورغم كونه تفصيلاً صغيراً بالقياس إلى التهديدات النووية فإن استخدام بوتين حق الفيتو يعني المضيّ في التصعيد على كافة الجبهات، حتى يحصل على “نصر” ما لحفظ ماء وجهه. أما إذا كانت النية متجهة إلى التهدئة فسيوافق على تمديد إدخال المساعدات، وبالطبع لن يسوّق الموافقة بدواعٍ إنسانية، بل سيتم تظهيرها كهدية لصديق، على غرار المرة الماضية عندما قيل أن سحب الفيتو كان كرمى لأردوغان.  

     *المدن