الرقة.. خيال متعددة في ذاكرة واحدة

0

شعيب حليفي، ناقد وباحث من المغرب

أوراق 19- 20

الملف

محبة الأصدقاء لا تأتي متأخرة أبدا

إلى نبيل سليمان وشهلا العجيلي وماري رشو..

 كلام كثير ما زال ضائعا في نفسي أشبه بسفينة سومرية تحملكم فقط

أبطالا في خيال كاتب مغربي من بلاد صالح بن طريف.

لا يمكن للحياة أن تستقيم بلا ذاكرة، ولا ذاكرة بلا مكان. والرقة ليست مكانا ولكنها فضاء متشابك مع التاريخ وأرواح الكلمات والوجود الذي هو الصيرورة.

زرتُ مدينة الرقة، كما لو أنني عبرتُ إلى حلم كان مستعصيا. وكانت المرة الثانية التي أزور فيها سوريا بعد الأولى إلى اللاذيقية (في الفترة ما بين 7 و 11 نونبر 2005).  دخلتُ المدينة وولجتُ معها في حالة لم تفارقني أبدا، وكان ذلك في الرابع من دسمبر/ كانون الأول 2009، فعشتُ أياما كانت بالنسبة لي مِرآةً سحرية رأيتُ فيها نفسي الشرقية، وألهمني خاطري بإلحاح تدوين حضوري فكتبتُ نصا، مباشرة بعد عودتي إلى بلاد الشاوية بالمغرب، وفي خلوتي مسكتُ نفسي بقوة لأن ما كان بداخلى مثل بركان يسوّدُ كتابا كاملا وليس نصا واحدا، ولكنني غلبتُ هوى النفس وارتضيتُ بالاختزال كما لو أني أكتبُ نبوءة ساحر برغواطي وليسَت رحلة تتلبسُ شكل رواية قصيرة تكتنز ما يتم تفصيلُ خفاياه في رواية طويلة.

عنونتُ النص ب”العبور إلى الشام”، ثم افتتحته بمقطع من قصيدة شعرية لشاعر مغربي، دون أن أفسر لماذا اخترتُه:

أريدُ قليلاً من الصمتِ كي أستطيع الصلاة

ويا قاتلي… بطعنتك الغائرة

يا قاتلي عارياً، لا سلاح بكفِّي

ولا صديقْ

يُرافِقُني نحو رقدتي الأخيرة..

سواكَ وخنجرك المُستقيم بحنجرتي … كالحريقْ

تمهل … أري بين عينيك شكّاً

وصمتاً ورعباً كرعب الغريقْ”.

لا أعرف لماذا اخترتُ هذا المقطع، وهل قرأته في تلك المرآة التي كانت تراني وأراها بتوجس؟ ثم انتقلت – في تدمير متعمّد للسرد الكرونولوجي والتسجيلي البليد، وغمّستُ يدي في مداد الخيال، مفتتحا كلامي بلحظة العودة من سوريا بعد انتهاء تواجدي بها في سياق مؤتمر الرواية الملتئم لحظتها.

حينما أعود اليوم، كما كنتُ أعود إليه في كل مرة أحس برغبة الاقتراب من الرقة وأصدقائي بها وبكل سوريا، أشعر بأن الرقة كتبتلي في هذا النص بكل ما كان سيقع لها لاحقا، فقد كتبت النص في فقرات، تداخل فيها اليومي بالتاريخي بالخيال باستدعاء أحداث ووقائع وتأملات مضفورة في تخيلات أراها تحولت إلى تحقّقات، لا أقول تنبؤات ولكنها كتابة “روحية” على الخط اللامرئي الذي يفصل الروح عن اللاروح، ويفصل الواقعي الراكد عن الخيالي المتمرد وقد استطاع فكّ قيوده ليقول كل شيء.

وبين أيديكم الآن النص كما كتبته في ديسمبر 2009 بعد عودتي مباشرة من الرقة: 

  • حدوس ساخنة

وأنا أصعد سُلم طائرة العودة، من مطار حلب، قُبيل فجر يوم الخميس العاشر من ديسمبر، في الساعة الثالثة والربع، حيث ملائكة الرحمان في ذلك الليل البهيم، النديِّ بنُعاسٍ لذيذ، تُعيد ترتيب العالم ليوم جديد. تعمَّدتُ البقاء متأخرا عن كل رُكاب هذه الرحلة، ونحن ننزلُ من الحافلة أمام الأدراج الحديدية المؤدية لباب دخول طائرة الايرباس التركية، جميعُهم في استعجال للولوج إلى أماكنهم الدافئة، ربّما خوفا من تلك الخطوط المطرية الخفيفة، العربية الطعم، لا طيّعة ولا حَرون، وإنما رخيّة حنون، مُسبلة في رحابة محسوسة.

تخلفتُ عمداً، لغرض في نفسي التي لم يتبق فيها شيء سوى الأحاسيس المُشتعلة، وأنا أرمي برِجْلي اليُمنى على الدّرج الأول. لم يكن متبقيا أمامي في الدرج الخامس سوى رَجُل في حوالي الخمسين من عمره، يبدو مثل مهندس أو فنان، منشغلٌ في حبور الأطفال، بابنته ذات السنوات الخمس .. تمشي الهوينى حاملة بين يديها فرسا من حرير أسود وأزرق، عليه دوائر بيضاء.

سهوتُ في النظر إليها وأنا أشعر بالرذاذ المُمتع، بوجهها الطفولي الناضج والضاجّ بنورانية ارستقراطية، كأنها حبّة مَطر طاهرة نزلت بيننا حيّة تمشي. لمَحَنِي والدها فابتسم. آنذاك، تخليتُ عن المشهد، دون أن أُشيحَ عنه بخاطري، حينما فاض بداخلي مشهد أقوى وأبعد.

في الدُّرج السادس، لم يتبق خارج الطائرة سِوايَ والأب الرحيم وابنته. فيما في الأعلى، رُبّان ومضيفة ينتظران أمام المدخل، وقد كمشا بين فكيهما على ابتسامة مفترضة ورقمية، سيرميان بها إلينا من تَعَوُّد واجب. لكنّني توقفتُ، وكان الأب قد توقف بدوره منتظرا صغيرته التي لا تبتعد عنى سوى بدرجين، تُجرب جعل فرسها يقفز الحواجز.

 توقفتُ ملتفتا خلفي، لثانيتين أو أكثر بقليل، ورأسي إلى السماء. هناك، بعيدا أبحثُ بداخلها متسربا، في خفة طفولية بين حبّات المطر الزُّلالية، عن الملائكة التي تُدوّنُ على صفحات السماء أيامنا الجميلة، بلغاتٍ رقيقةٍ وطافحةٍ بالمشاعر الجليلة.

وفي الثانيتين أو أقل بقليل، أحدق أفقيا، كمن يرى كل بلاد الشام لآخر مرة. إحساس آلمني كوني مُتأكد بأني لن أعود إلى سوريا أبدا بعد خطوات فقط تفصلني عن باب الطائرة. ومردُّ هذا الشعور أني رأيت ُ هناك، في اليوم الثاني من وصولي، حلما – مكتمل الشروط- رأيتُني مجتمعا بعدد من الأصدقاء السوريين الأكراد والأتراك، وجرت بيننا حوارات، كما زرتُ الشام/ دمشق وفاوضتُ الأمويين. ورأيتُني في مكان يسمى بالشاوية ثم الرصافة أعيدُ بناء مُلكي ومسجدي الذي أرى منه عُهودي، وأهشُّ فيه على وَرَعِي وتقوايَ.

في آخر الحلم، وكان مشهدا سريعا وعنيفا، جماعة من العساكر يتقدمهم ضابط مُثقل بالنياشين.. يأخذونني إلى بهو بارد وطويل، ثم شرعوا في استنطاقي وسط ظروف مُذلة؛ بعد ذلك صلبوني رغم أني مسلم كامل الإسلام.

أنا أثق في أحلامي المتضمنة لعلامات وإشارات مرتبطة بالسياقات النهارية والأحداث التي أعيشها …إنها جزء من حدوسي السرية، والتي يبقى تأويلها عندي وعند غيري يسيرا وفي المتناول.

عدتُ أرمي خطواتي الأخيرة في بلاد الشام العزيزة، وقد شعرتُ بسخونة جياشة في صدري وامتلاء حار في عينيَّ بالدمع العصي، وصوت الأب يصلني واضحا وهو يدعو ابنته باسمها-كما ناداها أول مرة – إلى الإسراع.

  • ظلام فوق السحاب

كانت هذه المرة الثانية التي أسافر فيها إلى سوريا، بعد تعذر ذهابي لمرات أخريات.

وقد دُعيتُ، رفقة الروائي الميلودي شغموم من المغرب، إلى ملتقى الرواية بمدينة الرقة، حيث استغرق سفرنا من كازبلانكا إلى اسطمبول نحو أربع ساعات ونصف، قبل أن نعْبُر نحو طائرة أخرى، أقلَّتنا في ساعتين إلى حلب، ومنها أخذتنا سيارة إلى مدينة الرقة في ساعتين أيضا.

نزلنا فندق اللازورد بوسط المدينة، في فجر يوم الأحد سادس ديسمبر، وكان مزاجي متعكرا جرَّاء التعب والجو البارد الذي استقبلنا به مناخ البلد. وفي الصباح، توجهتُ نحو عامل الاستقبالات، وهو رجل لطيف يسمع كثيرا ويتكلم قليلا، طلبتُ منه تغيير الغرفة بأخرى ففعل، وكانت بالطابق الرابع رقم 403 في ممر موحش وطويل، مثل ذاك الذي رأيته في الحلم. بعد ذلك خرجتُ وحيدا نحو وسط المدينة بشارعيْ 23 شباط وتل الأبيض.

تجولتُ مدة ليست بالقصيرة، ثم جلستُ بإحدى المقاهي لفترة قبل أن أدخل إلى محل تجاري للاتصالات رغبة في شراء شريحة سورية.

جلستُ منتظرا صاحب المحل، وهو يستفسر عبر الهاتف، شخصا أمنيا. ولما أخذ منه الموافقة طلب مني جواز سفري الذي نسخ منه الصفحات الست الأولى وصفحة خاتم تأشيرة الدخول، كما طلب مني عنوان الفندق واسم أبي وأمي، لاستكمال تعبئة استمارة الاشتراك؛ وعوض أن يطلب مني التوقيع أمرني بالبصم، فانتفضتُ ورفضتُ وأنا أنتزع منه جواز سفري، ممزقا بطاقة المعلومات والنُّسخ، لأني أرفض معاملتي مثل مُتهم أو مُجرم يبصم لترصُّده في أية لحظة.

قبل وصولي الفندق، رغبتُ في التأكد مرة أخرى، فدخلتُ محلا تجاريا آخر. أجرى صاحبه نفس الإجراءات، وشرحتُ له في البداية بأنني لن أبصم، فأنكر وبصم بسبابته بدلا مني.

***

في المساء، تبددَ ضجري بعض الشيء وأنا ألتقي بأصدقائي من سوريا ومصر واليمن والسعودية.

يوم الاثنين، انطلقت أشغال المؤتمر ولم تنته إلا في حوالي الساعة العاشرة ليلا، حيث ازداد ضجري، فالتحقنا مباشرة بمطعم الفندق .. وبقينا إلى غاية الساعة الواحدة والنصف صباحا في جلسة عائلية حميمية، مُلتفين حول الأب المنقذ نبيل سليمان، مثل رهبان وفقهاء أو سحرة نستمع إلى الابتهالات العالية التي جعلت أرواحنا تتفتح وترى النور.

عدتُ إلى غرفتي عبر الممر الطويل والبارد، وقد أحسست بمصالحة مع نفسي، فسهرتُ لساعة أخرى كتبتُ فيها أزيد من عشر صفحات من “الرواية القصيرة” التي كنتُ بدأتُها في رِحلات سابقة، ثم أعدتُ قراءتها، فلم أخلد إلى النوم إلا بعدما صارت صفحة واحدة، فقط، بخط يدي. إنه النص النائم بداخلي، لا يصحو إلا وأنا بعيد عن أوطاني.

  • حكاية لتسلية المُسافر:    

كل إنسان يملك مِرآة رمزية يفك بها شفرات ما يسمع ويرى، وما يفكر فيه؛ ونفس المِرآة تصوغ له المعاني التي يُنتجها. أما مِرآتي فهي في مواصلة تدوين ما يهبط عليَّ من معانٍ عارية حول ما يقع بالجبل، فأراها قد انكسرت، ورُبَّ ضارة نافعة.

كلنا يُحبُّ الجبل بطريقته، ويُعبر عن ذلك بالصمت المُوارب أو بالطرق الأخرى المتاحة.

الليل بهيم وهادئ، حيث يُقرر همَّام الخروج بعدما لبس جلبابا وطاقية سوداوين، وركبَ سيارته الرباعية الدفع السوداء أيضا. ضغط على زر من مفتاح أبيض انفتحت إثره البوابة الحديدية للمرآب، فانتفضَ أربعة من الحراس الشِّداد الغلاظ واقفين، أشار عليهم بالعودة إلى أماكنهم، مُنصرفا وحيدا في شكله المتخفّي.

هَبط نحو الشارع التحتاني يسوق سيارته بسرعة بطيئة في اتجاه الجهة الشرقية .. وكان وحيدا حينما انتهى إلى المقبرة الوحيدة المحاذية للبحر. رمقها بسرعة ثم رجع وهو ينظر بإمعان في المِرآة الداخلية للسيارة العاكسة للخلف، فلم ير سوى الظلام والصمت والتوحش.

اتخذ طريقه، هذه المرة، غربا بنفس السير والتأمل، إلى أن وصل أخيرا أمام كهوف عالية وقديمة، سكنها الإنسان الأصلي، مستندة إلى غابة لا أحد يعرف منتهاها.

وسرعان ما بدأت تصل إلى سمعه أصوات متوترة، مصحوبة بأنين متقطع، لم يتبين مصدرها. ومباشرة، ضغط على دَوَّاس البنزين، فانطلقت سيارته مثل شبح فُكَّ من قيوده.

  • من أكون؟

استمرت الأمطار تُراودنا، والشمس خفيّة متوارية وراء حجاب رمادي. أما السحابات القابعة فوقنا، فإنها تتهادى في لامبالاة .. تسمح لنا من حين لآخر بفجوة نرى من خلالها السماء، صفحة للناس الطيبين، يكتبون عليها مآثرهم وأحلامهم.

أما أنا، فقد كنتُ، في اليوم الثاني، هادئا مثل الرقة، المدينة الصغيرة القابعة على الضفة اليسرى لنهر الفرات، استفيقُ صباحا للتجول فيها في وقت محدود، قبل أن أعود ونفسي قد طابت بذلك الهدوء الذي يطبعُها، وبتلك الروح البسيطة عند السكان المقيمين أو القادمين من المزارع المحيطة.

لماذا حينما تهطل الأمطار، يُعاودنا الإحساس بالحنين إلى جدنا آدم، كأننا أتربة حية من صلصال رباني نفرحُ بالمطر الذي يروينا.

***

هل أنا رحالة أم كاتب؟ مؤرخ أم سفير لممالكي؟ أبحث عن ساحات أخرى للخيال، وهذه المرة، في أرض سوريا التي نحب تسميتها بالشام، كُلا، وليست دمشق فقط!.

ما حدث يعود إلى آلاف السنوات الحية في جيناتي .. حينما قررتُ الرحيل لوحدي، وخمَّنتُ أن القدَر سيكون باذخا معي ولن أعود من هناك أبدا .. فأمامي رقعة أبذر فيها خيالاتي وسط مساحة زمنية تُقدرُ بثمانية آلاف سنة قبل ميلاد السيد المسيح.

منذ ذلك التاريخ السحيق، وجدتُني هناك، مُحاربا ضمن جيوش مملكة أكاد، جنوب ما بين النهرين، رفقة قائدها “سرجون أكاد”، أدافع عن مدينتيْ “إبلا وماري” السوريتين .وكان ذلك قبل  ميلاد السيد المسيح بثلاثة وعشرين عاما فقط.

واجهنا الغزو الذي دمر مدينتين وُجدتا منذ الألف الرابعة قبل الميلاد، وعُرفتا بلغتهما السامية المتصلة بالأكادية القديمة والكتابة المسمارية.

شاركتُ إلى جانب القبائل و”جندبو العربي” – كي أفوز بالسبايا الأشوريات في حرب حاسمة دفاعا عن دمشق-  فانتصرنا على شملناصر الثالث؛ لكن الذي  سيأتي كان قاسيا حينما مات الإسكندر الأكبر، وانخرط ورثته في حروب لم تنته إلا بفوز سلوقس بسوريا، مدعوما من بطليموس، فصارت البلاد السورية مركزا وجزءً من امبراطورية تمتد حتى الهند.

عدتُ إلى مدينتي “ماري”، بحثا في حواشيها الأليفة عن مَبيت دائم، وكأنني كنتُ أعلم بما سيأتي من حروب قاتلة لا منتهية في ظل الدولة السلوقية، فعدتُ إلى ساحاتي الساخنة وسط جماعات من الثوار ضد انطيوخس وسلالاته وديمتيريوس.

سبعة قرون، بين الرومان والبارتيين والفرس، تبدّدَت فيها كل الخيالات حتى أني نظرتُ إلى كفي لأرى دمائي المختلطة بآثار السومريين والأكاديين والأموريين والبابليين، والآراميين والأشوريين ثم اليونان والرومان، قبيل مجيء السيد المسيح .. أراها فأتأمل من أكون؟

  • قرب النهر

بعد انتهاء جلسة مساء اليوم الثالث، في الساعة العاشرة ليلا، عُدنا جميعا إلى الطابق الخامس لتناول وجبة العشاء، حيث مكثنا إلى غاية الساعة الثانية بعد منتصف الليل. لحظتها، غفوتُ لثوان معدودات في معراج روحاني وأنا جالس وسط رُفقة من أصدقاء، هم في مراتب أولياء الله الصالحين، فرأيتُ نفسي واقفا في أرض أشبه بالجنة. انسحبتُ إلى الوراء لأرى شيئا ينهض من آثار خطواتي. أراني أم أرى شخصا اسمه “مازغ”، المولع بالغزوات، يركب فرسه وهو ممتلئ بالطموح والمغامرة .. خرج من الشاوية قاصدا بلاد الشام، وحيدا، باحثا عن تحرير أحلامه المعتقلة لدى أخواله وأعمامه.

رأيتُني جئتُ من بلاد الأمازيغ، أرض الأحرار، على فرس إلى بلاد الشام، محاربا أبحث عن طريق للعبور إلى نفسي، وحينما وصلتُ صباحا، جلستُ قرب النهر أنتظر كل أقداري المشتتة في جلود أجدادي. أشم فيها روائحهم العطرة والشجاعة.

  • حكاية لتسلية المُسافر:

(الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل) أشعرُ بحماس كبير كلما فكرتُ في شخصية “ولاء الطيب”، فأنا أحبه وإلا ما كنتُ مأخوذا بالكتابة عنه، خصوصا، خلال سفري خارج الوطن .. هل الحكمة في تلك المسافة التي تُبعدني عنه وعن حياته التي يتمتع بها في الجبل بشخصيتين؟ واحدة وهو وسط حاشية الحاكم في القمة، وأخرى في السفح مع عامة الشعب. شخصيتان لا يستطيع التفريق بينهما إلا الخبراء في فقه التأويل.

ورغم كونه شخصية خيالية، فقد انتظرتُ منه مكالمة هاتفية ليلومني أو يشكرني حتى يفتح لي ثُقبا ولو صغيرا، ألج منه إلى تفاصيل أخرى من حياته. هل هو خائف أم تعلمَ من السيد همَّام كيف يلعبُ لعبة الإهمال وانتظار الفرصة للضرب ضربة واحدة لا غير …؟

***

في فصل جديد يَهمُّ الجبل، لم يعد الثلاثي همّام وولاء وعصمان الجبلاوي لوحدهم في ساحات الجبل، يتحكمون في زمنه، بل انضاف إليهم عدد آخر من الفنانين المقاولين ورجال الأعمال، منهم وضَّاء الماجد وسلام الصويري وطه المناصري وعزيز الغازي … ينافسون السيد همَّام بتمثيليات من إنتاجهم وإخراجهم. فعلى سبيل المثال، يقدم السيد طه المناصري تمثيليات يستقي مواضيعها من أرشيف الاستخبارات الجبلية، وقد اغتنى مثل الآخرين باقتناء مئات الهكتارات من الأراضي حتى اعتقد السكان أنهم ردموا الزرع من أجل تهيئ مسارح كبيرة لا تسع إلا للملاحم التي لم تُكتب بعد.

اشتد الصراع وسط هذه الأطراف، وخصوصا بين الثلاثي همَّام وطه المنصاري ووضاء الماجد، حول استقطاب والتهام باقي الفرق الفنية والموسيقية وعددها أربع وثلاثون فرقة. وقد تمكن همَّام من “جر” ممثلين وفنانين ومنظرين “موهوبين”، عملوا في السابق ضمن فرق فنية سرية ويسارية؛ وكان لِولاء الطيب دور في التمهيد لهذه المرحلة الحاسمة.

  • العشاء الأخير

ليس مُصادفة أبدا، ولم يكن ترتيبا من أحد، ولكنه من الله الذي جمعنا من أزمان وأمكنة، في تلك الربوة التي تسمى الطابق الخامس، المُطل على خطوط متناغمة، تقود نحو مساجد وكنائس مترامية في فضاءات صامتة تتأمل وجودنا القدري.

اليوم الرابع والأخير لي بالبلاد السورية، جلسنا في العشاء الأخير وقد كنا أحد عشرة حكاية، أو بالأحرى أحد عشر ساحرا، كل واحد يتأبط كتابه بيمينه.

كنا على مائدة العشاء المستطيلة، في جنوب قلب المكان، وفي الطرف القصي جلسنا: معجب العدواني من المملكة العربية السعودية، وعبد ربه والميلودي شغموم من شاوية المغرب، ومحمد الغربي من اليمن، وخيري دومة من مصر، وأحمد خلف من العراق.

وفي الجهة المقابلة لنا، بنفس الترتيب، شهلا العجيلي ونبيل سليمان وإديت بياف ورفقة دودين وماري رشو، وأخيرا خيري الذهبي.. وجميعهم من سوريا.

كانت الحيرة هي سبيلنا الوحيد للوصول إلى أرض الدهشة. نتكلم ونحكي، ومن حين لآخر يُنزل الله علينا شيئا في صدورنا نقوله ثم نمضي، دون أن يجرؤ أحد منا على تقييده .. فهو كلام هبط ليذوب مع أنفاسنا الزكية والحارة.

كان الجميع يتأمل تواريخ الظنون في نفوسنا، ولكنني (في تلك الليلة التي امتدت من وقت معلوم، ولن يعرف أحد متى انتهت!) أستطيع التحدث عما كان في نفسي، فقد أحسستُ بعدما كنتُ يائسا أنّه بإمكاني معاودة ركوب فرسي الذي تركته مربوطا في الخلاء، قبل ألفي عام أو أقل بقليل…

بإمكاني معاودة الركوب عليه دون سرج ورسن أو لوازم، والانطلاق بعيدا للعبور نحو روحي.

من فينا كان النبي الذي كنا سنُضحي به حتى تتطهَّرَ أقدارنا ونظراتنا وأصواتنا؟ …

تَحَاوَرْنا في أمور الدنيا، وقارعتُ أفكاري بأفكار العدواني، وأحسسّتُ أننا نجلسُ في نفس المكان، عبر أزمنة متعددة ومتداخلة وسط ابتهالات تشرح القلوب والأحاسيس.

هل كانت بيننا مريم المجدلية فعلا؟ أم أن انشغالي المتعجل بالبحث عن الطهرانية في عيون وقسمات المطر جعلتني قلقا محموما؟

قلت لصديقي الذي كان على يميني: لا تخشَ أعداءنا، فلن نموت أبدا إلا إذا قَتَلَنا أصدقاؤنا…

وقلت لصديقي الذي كان على شمالي: نحن أيتام منذ موت محمد، ولكن المائدة هاته جمعتنا لنبدد خطايانا ونعلن محبتنا لبعضنا.

قلت لنفسي: تمنيتُ لو كان بمقدوري ضم هذه الأرض بأهلها إلى ممالكي.

ماري.. أين ستُصلّين هذا المساء؟ فجرا عند سيدة البشارة وظهرا لدى القديس جورجيوس، أم عصرا في أحضان السيدة العذراء حينا، وتحت ظل رقاد السيدة بالأوغاريت حينا آخر. وفي الغروب تكونين حاضرة عند القديس نيكولاس، أما العشاء – سيدتي-  فهو في محراب ذلك المسلم الأمازيغي العروبي الفاتح الغازي المتعطش التقيّ الذي شبعت روحه ورعا وانتظارا. العشاء الأخير معه .. حج لإعلان النوايا وتأويلها.

***

هل يعرف أحد أننا جلسنا لأول مرة في تل مريبط، قبل ثمانمائة سنة (ق.م)، نكتبُ مصائرنا على الحجارة، ثم انتقلنا إلى بانياس بالجولان حين قلتِ لي:

أنتَ الصخرة التي ستنمو عليها أحلام الأنبياء.

بعد ذلك كتبتِ على الحجارة ما يلي:

“الغصّة الوحيدة التي تَرَكْتَهَا في نفسي هي أنّني لم أتمكّن من إسعادك، أو استبقائك إلى جانبي بعد صلب السيد المسيح. أنتَ لم تمنحني الفرصة بمزاجيّتك الحادّة… لقد أربكتني كما لم أرتبك أبدا، وأنت تهاجر ضمن جيوش الفتح الإسلامي للبلدان… وتركتني أنتظر.

 سنلتقي، لابدّ أن نلتقي… “.

لم أكن في كل تاريخي الطويل “هنا”، ناسكا كمن عاشوا في العراء أو في الكهوف، أو مع من طلعوا الأبراج، يعملون نهارا في الحقول، وفي الليل يتسللون لنسخ المخطوطات الدينية، ورسائل غرامية بأسماء مستعارة.

أهي مريم المجدلية؟ أم أنتِ الراهبة التي عمَّدت روحها بدم الشهداء والسحرة والشعراء، من انطاكية إلى القدس، عودة إلى جنوب البحر الأسود ثم صعودا إلى الشام. ذراع واحد أشبه بذراع مريم ابنتي الصغيرة.

هل التقيتِ ببولس أم بحنانيا، أم عانقتِ أنوار الفتوحات منذ رجب، في السنة الثانية عشرة للهجرة مع خالد بن سعيد ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وأبو عبيدة الجراح ثم خالد بن الوليد؟

أين كنتُ، أنا، في السنتين المواليتين؟

  • ما زلتُ أسأل ..من أكون؟

اليوم الرابع، تتواصل أيامنا في المؤتمر وسط جو عال من التقدير والاحترام بين كافة الأدباء المنتمين لأقطار عربية شتى، رغم الأمطار والطقس البارد. لكن الجَوَلات السياحية التي قمنا بها جماعة كانت فرصة طريفة لمعرفة جزء من ذاكرة المكان والتاريخ الذي نوجد فيه.

زرنا مزار عدد من الصحابة والشهداء، كما استمتعنا بمعاينة سد الفرات ومدينة الرصافة وقلعة جعبر.

توجد مدينة الرصافة على بعد ستين كلمترا جنوب مدينة الرقة، وهي عبارة عن سور وأطلال بُنيت من حجارة قرميدية ضخمة، بداخلها كاتدرائية، وُجدت منذ 559 ميلادية، وصهاريج وكنيسة للشهادة. وكانت المدينة تسمى في المصادر البيزنطية باسم مدينة القديس سرجيوبوليس، وفي العصر الأموي سُميت برصافة هشام بن عبد الملك الذي أقام بها فترة، وبنى بها مسجدا، ما زالت معالمه قائمة..

أما قلعة جعبر، فتقع قرب سد الفرات، إلى الشمال في منطقة الجزيرة السورية على الضفة اليسرى لبحيرة الأسد، تمتد داخلها على شكل جزيرة أثرية رائعة تتربع فوق هضبة كلسية، ترتفع قمتها إلى 347 مترا فوق سطح البحر، ويبلغ طولها من الشمال إلى الجنوب 320 مترا، وعرضها من الشرق للغرب 170 مترا، يحيط بها سوران يضمان عددا من الأبراج، تزيد عن خمس وثلاثين برجا، بعضها مضلع الشكل وبعضها الآخر نصف دائري، وفي وسطها شُيّد المسجد الجامع.

وتُنسب القلعة إلى الأمير جعبر بن سابق القشيري (القرن الحادي عشر الميلادي)، ولا يُعرف عنه شيء سوى أنّه بقي حتى أسن وعمي، وكان له ولدان من قطاع الطرق. وقد أخذها منه السلطان السلجوقي وقتله سنة 464 هجرية.

عُرِفتْ القلعة قبل نسبتها إلى جعبر بالدوسرية، نسبة إلى دوسر، غلام النعمان بن منذر، وأن تاريخها يرجع إلى ما قبل الإسلام.

  • حكاية لتسلية المُسافر:

(فجر اليوم الأخير: يوميات ولاء الطيب) تصعب الإحاطة بكل أخبار السيد ولاء الطيب، لأن عالمه متشعب ويتطلب تحريات فريق كامل، لذلك قررتُ العمل بطريقة واحدة فقط، وهي رصد ما يفعله خلال يوم كامل، عن طريق الترتيب الجيد لليوم الموعود، عبر الاستعانة بفريق من صديقين لي، أنا ثالثهم.

***

استفاق كعادته في العاشرة صباحا، وخلال ساعة واحدة سيهيئ له الخدم الحمام والفطور، ثم ملابس يوم الأربعاء والعطور المصاحبة وبعض الماكياج الخفيف.

في الحادية عشرة والربع، ركبَ سيارته متوجها نحو مقهى على الشاطئ. شرب قهوته المفضلة وهو يتصفح الجرائد والمجلات، وفجأة يرمى بكل شيء، متناولا هاتفه متحدثا مع بعض أصدقائه وهو سعيد ومنشرح.

في الثانية عشرة وعشر دقائق، توجّه إلى مكتبه بالمسرح التحتاني، في سفح الجبل. وهناك ترأسَ اجتماعا مع فريق عمله، من الممثلين، تهييئً لمسرحيتهم الجديدة “الهيئة”، والتي من المنتظر أن يستمر عرضها لثلاثة مواسم.

تحدث ولاء الطيب عن الصدمة التي ستُحدثها المسرحية الجديدة بالعمل على “تحرير المسرح العربي من الخواء والخيالات المريضة”.

كما أخبرهم بالخطوط العامة لمضامينها؛ وهي عبارة عن لوحات تعرض لجلسات استماع وحوار يتحدث فيها بعض الأموات والأحياء، ممن كانوا ضد النظام، ويعترفون بخطاياهم، جهات معادية للجبل غرّرت بهم، وكذلك الوسواس الخناس الذي ملأ صدورهم وعقولهم.

وتنتهي التمثيلية الهزلية نهاية سعيدة، بالعفو عنهم ومنحهم أموالا وبيوتا وجواري ووثيقة اعتراف بالمواطنة الكاملة والتوقير التام لحاملها، مع تمكينهم من حمل لقب واحد هو الجبلاوي.

أنهى ولاء الاجتماع، وصعد مباشرة إلى الطابق الأخير، حيث يوجد مسبح وقاعة ساونا وأخرى للتدليك والتجميل.

في الساعة الثالثة، توجه إلى فيلا السيد همَّام للمشاركة في حفل غداء بحضور وفد من المسؤولين العرب، جاءوا ليستفيدوا من التجربة الوطنية.

في الساعة السادسة، ودَّعا الضيوف، وتوجها معا إلى مكتبهما في قمة الجبل للاجتماع مع خلية الخبراء إلى غاية الثامنة والنصف. بعدها، انطلق ولاء مسرعا نحو شقته مستبدلا ملابسه بأخرى من الجينز وحذاء رياضي. خرج راجلا. ركب تاكسي صغيرا قاصدا مقهى شعبيا بسفح الجبل. هناك، وجد أصدقاءه القدامى، من المعتقلين السابقين والشعراء والصحفيين المنتمين إلى اليسار .. وقد تعودوا عليه في وضعه الجديد، بعدما أقنعهم أنه مُفيد لهم وهو في حاشية الحاكم ورفقة همّام.

كان في جلوسه إليهم، مرتين في الأسبوع، إرضاءً لجزء من ذاكرته أولا، وللضغط على همَّام من خلالهم ثانيا. أما ثالثا، فقد كان يُجاهد لاستقطابهم إلى تبريراته ورؤيته التي تتحدث عن المستقبل والمُصالحة. كما أنه تعوَّدَ أن يقدم لبعضهم الهبات في شكل سلفات، يعرف أنها تجعله حاضرا بينهم يستمع إليهم ويستمعون إليه.

حينما انتهى من جلوسه إليهم، عاد إلى بيته ليرتب سهرته الخاصة والتي تختلف باختلاف الظروف. لكنه في هذه الليلة دخل مكتبه ليكتب خاتمة المسرحية.

جلس طويلا إلى نفسه .. تتنازعه شخصيتان تتصارعان كلما اختلى وحيدا؛ الشخصية الأولى صارت مقهورة ذليلة مستعبدة ومختبئة. الشخصية الثانية يمثل بها وهي مزيج من شخصيات مركبة، طارئة ومستعارة عمقها التنكر والاستبداد وحسن التخلص من كل المواقف التي صاغتها شخصيته الأولى قبل تعرفه إلى السيد همَّام.

احتار فلم تسعفه الكتابة، قام نحو مكتبته يبحث في دواوين الشعر العربي، فالتقط ديوانا لشاعر من الشعراء الذين أحبهم سكان الجبل. حقيقي وواعد ما لم تغتله عصابات الجبل.

وهو قائم، فتح ولاء الطيب الديوان على قصيدة بعنوان “أريد قلبا في قلبي”، شرع في قراءتها بصوت مسموع، فاكتشف أنّه يحفظها عن ظهر قلب، لكن شخصيته التنكرية ارتابت وانطلقت تكتب المشهد الأخير لمسرحية الهيئة، إحدى الشخصيات التي تجثو على ركبتيها وتقول شعرا، هو تحوير فاضح للقصيدة الجميلة:

“أريد هيئة في هيئتي

أريد قليلاً من الصمت كي يحضر الغائبون

أريد كثيراً من الحب كي يسلك الآخرون”.

  • عبور أخير

روح الرحالة مثل سفينة ترسو في الميناء، لتهدأ قليلا وتستريح من تقلبات النهر والبحر، تشمّ رائحة التراب والناس. إنه عبور ناعم من الموت إلى الحياة.

أرفعُ بصري إلى السماء، مترقبا فجوة سريعة بين زحف كتل سحاب لامبالية .. لأطل منها على أقداري .. فأرى “مازغ” وقد صار مُشبعا بحماس كبير، مُبللا بالمطر والغبار، خلفه جيش لا يُعدّ ولا يُحصى.

حينما دخل الشام عسْكَرَ بين جبلين ناهدين، في مكان يُسمى اليوم بالمنصورية، وقبل خلوده إلى النوم بينهما، شرب حليبا دافئا وأكل رمانا ودندن بشعر من الزجل المغربي يتحدث عن حبيبته، ثم يحمل مِرآته السحرية ويكتبُ عليها: حبات الرمان أسقطها الخريف وفرسه العطشان أوشك على الهلاك عطشا:

(الزين خَرْجَتْ بِحْنَاني مْصَيْحَه

هذا حَبْ الرُّمَّانْ تْسَاسْ في الخريف

هذا عَوْدُو عطشان قَرَّبْ يِجيفْ).

(من أغنية” الطالب”، للمجموعة الشعبية “لمشاهب” – المغرب)

في نومته تلك، رأى شخصين بلباس الجند في الجيش الروماني، سرجيوس وباخوس، رفضا تقديم الأضاحي والسجود للأصنام، فتم القبض عليهما وثقبوا شفاهيهما وأُدخل فيها خيط لجرهما به، كما نزعوا عنهما بذلتهما العسكرية وألبسوهما لباسا نسائيا، ووضعوا في أرجلهم أحذية في نعلها مسامير ظاهرة، وساقوهما على أقدامهما إلى حاكم الشرق الذي جلد باخوس جلدا وحشيا حتى أسلم الروح لباريها، أما سرجيوس فقد جزّوا رأسه.

بعد سنوات مديدة، يتفق رفاقه ويجمعون رفاته فيصبح قديسا في كنيسة الرُّصافة .

قام سيدي “مازغ” فجرا، وهو يتأمل الحلم الذي رآه، فتوجه نحو الرُّصافة. دخلها بعد ساعتين، أمرني بوضع المحلة، فدخل خيمته ولبس لباسا فضفاضا أبيض اللون، واضعا على رأسه شدّا، تعمَّد أن يتركه ملفوفا نصف لفة والباقي منه تدلى على كتفه الأيمن. تقدم وحيدا من بوابتها الكبيرة نحو الكنيسة التي دفن فيها رُفات سرجيوس .. فاستقبله راهب، قصير القامة، بلباس أنيق معتقدا أنه جاء ليعترف بخطاياه، فقال له:

  • ما بك يا بني .. أراك تحملُ جبالا من المعاني الراقدة في صدرك؟

رد عليه سيدي، بصوت خافت، ملموم في احترام حقيقي، وهو يتلمس الجزء المتدلي من شده بيده اليسرى:

  • جئتُ، آبويا، غازيا أسترد ممالكي وأبَشِّرُ بجدِّنا الذي سيولد من بعدي، ويحرر الظن من أغلاله، والظلام من بهيمه.

وفي لحظة اندهاش الراهب، أخرج جدنا “مَازِغ”، الرحيم بنا، رسالة من الجلد الداكن .. سلمها له وهو يقول:

  • هذه وثيقة أبيع فيها نفسي إلى الله وإلى جدنا القادم .. فاستعجلْ قراءتها.

***

في الطائرة، وأثناء عودتي من حلب إلى الدار البيضاء مرورا باستانبول، وبعدما ولجتُ إليها متأخرا، بحثتُ عن مكاني، ثم قمتُ بسرعة أفتش عن الرجل وابنته للجلوس بجوارهما، فلم أعثر عليهما، وعاودتُ السير في ممر الطائرة مرة أخرى دون جدوى، وقد خامرني الشك في نفسي، وسألتُ مضيفة تركية عن طفلة برفقة والدها في الخامسة من عمرها، تحمل فرسا وتلبس ثوبا ملكيا أسود. لكنها قطعتْ شكي وهي تُخبرني بعدم وجود أية طفلة بالطائرة في هذه السن .. فقط، يوجد طفل، أسمر اللون، مع أمه في الرابعة من عمره.

ثم سألتها متوسلا، هل يمكن أن يكون والدها قد دخل مقطورة الربان؟ فنظرتْ إليّ بارتياب وهي تنسحب بسرعة.

عدتُ إلى مكاني منهزما وصامتا .. أرى ولا أنظر، ولكنني أُناجي جدي الغارق في الزمن السحيق.

الأمازيغي، ربما! والذي أخذوه عن طريق ترتيب رباني عظيم، بديلا عن السيد عيسى بن مريم، نحو الصلب.

الأمازيغي، ربما! والذي كان قريبا، في مثل هذا اليوم من سنة 67 ميلادية بروما، لحظة قطع رأس القديس بولس، فطلعتْ منه أبخرة ساخنة نحو السماء.

الأمازيغي، ربما! والذي عاش وترعرع في ظل نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، واستمر محاربا وغازيا متعطشا لدخول كل الجنات الموعود بها، وقبلها دخول المدائن والبلدان.